روى علي بن إبراهيم القمي بإسناده عن أبي خالد الكابلي قال: قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: والله لكأني انظر إلى القائم عليه السلام وقد أسند ظهره إلى الحجر, ثم ينشد الله حقه, ثم يقول:
يا أيها الناس.. من يحاجني في الله فأنا أولى بالله..
أيها الناس من يحاجني في آدم فأنا أولى الناس بآدم..
يا أيها الناس من يحاجني في نوح فانا أولى الناس بنوح..
أيها الناس من يحاجني في إبراهيم فأنا أولى الناس بإبراهيم..
يا أيها الناس من يحاجني في موسى فانا أولى الناس بموسى..
أيها الناس من يحاجني في عيسى فأنا أولى الناس بعيسى..
أيها الناس من يحاجني في رسول الله محمد صلى الله عليه وآله فانا أولى الناس برسول الله محمد صلى الله عليه وآله
أيها الناس من يحاجني في كتاب الله فانا أولى الناس بكتاب الله.ثم ينتهي إلى المقام فيصلي ركعتين وينشد الله حقه.
ثم قال أبو جعفر عليه السلام: هو والله المضطر في كتاب الله في قوله: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الأَْرْضِ).
فيكون أول من يبايعه جبرائيل ثم الثلاثمائة والثلاثة عشر رجلا.
هكذا سيخطب الإمام على مسامع أهل العالم, ويبدأ بتعريف نفسه, في أول ظهور علني له بعد غيبة طويلة امتدت دهورا ودهورا, ليتعرف الناس بكافة أعراقهم ودياناتهم ولغاتهم على هذا المصلح الأعظم, وعلى برنامجه في الإصلاح, وطريقته في سياسية الأمور, وعلى ما يتبناه من تجارب البشر, وما يرفضه منها, و على موقفه من الأنبياء والمصلحين, ومن دياناتهم وكتبهم الإلهية, وما أتوا به من تعاليم ومبادئ.
إن اللقاء الأول, و ما يتركه من انطباع في النفوس, لهو أمر في غاية الخطورة في شأن البشر, ولذا فان هذا الخطاب الأول الذي سيسمعه الناس بكافة أعراقهم ولغاتهم في مشارق الأرض ومغاربها.. يعد (الهوية العقائدية والسياسية) لهذا المصلح..
ان التعريف في مثل هذه الحالات.. يجب أن يطرد مع خطورة الدعوى وعظم المهمة, فبقدر ما تكون المهمة خطيرة, وبقدر ما تكون الدعاوى كبيرة, لابد أن يكون التعريف أكثر دقة ووضوحا. لأن الناس لا تسلم مقاليدها في الأمور الخطيرة إلى من لا تعرفه, ولا تعرف جذوره وأهدافه, وتجهل مواقفه إزاء مسلماتها الفكرية والفطرية.خصوصا إذا كانت الدعاوى كبيرة كالتي ستسمعها من هذا القادم من وراء الغيب.
إن دعوى إصلاح العالم أجمع..
وإقامة الدولة الموحدة في بقاع الأرض..
وتطبيق العدل الإلهي في كل زوايا الحياة..
ودعوى تمثيل مشاهير الأنبياء الذين آمن بهم البشر, واتبعهم الكثير منهم والتزم تعاليمهم, بل تمثيل جميع الأنبياء والمرسلين منذ بعث الله آدم إلى النبوة الخاتمة, لهي دعاوى خطيرة تحتاج إلى الكثير من التوضيح, والكثير من البيان, لاستيعاب حقيقة هذا القادم من أعماق التاريخ .
الغائب الحاضر:
المخضرم الذي عاصر الأمم المتعاقبة.. والدول المتوالية, وعايشها كيف تتكون وتنمو وتتسع, وكيف تضمر وتنهاروتتلاشى.. ليحل محلها غيرها في دورة طبيعية سنها الخالق في مجتمع البشر.. سنة الخالق في تداول السلطة وتبادل الأياموَتِلْكَ الأَْيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ).
(سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً).
القادم الجديد الذي عاش دهورا يتقلب على فراش الهموم وهو يرى مظالم البشر, ويعيش نكبات الإنسانية, وتملأ أسماعه آهات الألم التي تنطلق من حناجر ملايين الأيتام على مر التاريخ, وصيحات الرعب التي يخنقها صخب القتل والنهب والاعتداء. هذا القادم الذي يعدنا العدل, ويمنينا الرخاء, ويدعونا إلى أن ننظر إلى وجه رسول الله في وجهه, ونستشرف غرة أمير المؤمنين عليه السلام في محياه. ويحتج على البشر بما نزل على كافة أنبياء الله من كتب وألواح وحكمة. بزبور داود وتوراة موسى وأنجيل عيسى وفرقان محمد صلوات الله عليهم أجمعين. يقرأ كل تلك الكتب بلسان أهلها, وكما أنزلت من السماء صحيحة نقية بلا شائبة. ففي رواية أبي جعفر الباقر عليه السلام:
(ويحكم بين أهل التوراة بالتوراة, وبين أهل الانجيل بالانجيل, وبين أهل الزبور بالزبور, وبين أهل القرآن بالقرآن.) غيبة النعماني 243.
إن لحظة التعريف هذه.. ستكون من أخطر وأهم اللحظات في حركة الإمام عليه السلام, لأنها ستعطي(الانطباع الأول) لجميع البشر, وستوضح حقيقة هوية المصلح الأعظم, وستربط بينه وبين تاريخ الأنبياء والمقدسات التي يعتقد بها جميع البشر بلا استثناء, حتى اللادينيين منهم. وستثبت للناس أجمعين بما لا يقبل الشك.. أن هذا القادم ما هو إلا امتداد شرعي لجميع الأنبياء الذين آمنت بهم البشرية على طول تاريخها. وما هو إلا الوارث لعلومهم وتعاليمهم.
وهو المثال الحقيقي للإنسان الكامل والحجة على من لا يتصل بالأديان ولا يؤمن بها, هكذا ستقوم الحجة على الناس (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ).
وبدون هذا الاستيعاب والشمول في تمثيل الأنبياء وتمثيل المبادئ التي يعتقد بها البشر, لن تتم الحجة عليهم وستكون منقوصة مخدوشة, ولئن أقنعت فئة ستضيع فئات.هذه هي الحجة البالغة التي لا يتمكن أحد من التهرب من لزومها ووضوحها.
تفاصيل الخطاب والاحتجاج:
هكذا يبدأ الخطاب الأول الذي يعرف به الإمام نفسه أمام العالم ويدعوهم الى نصرته ومؤازرته لإقامة حكومة العدل الإلهي على هذه الأرض المنكوبة منذ قابيل. يبدأ بالله تعالى الواحد الخالق الواهب.
الله.. الخالق الواهب:
من يحاجني في الله فأنا أولى بالله.
هذه بداية لفتح باب النقاش والاحتجاج, وهي في الواقع النهاية والنتيجة أيضا, فان الإمام عليه السلام بعد أن سيثبت للناس أولويته بجميع الأنبياء والمرسلين, سيكون من الطبيعي أنه هو الأولى بالله تعالى.ولا يخفى أن البدء بهذه الدعوى الكبيرة, والتي تعني أن هذا المتكلم يدعي انه هو الأقرب إلى الله تعالى, دون بقية الناس, هو تحفيز للحوار وإثارة للاحتجاج ..الأمر الذي يدعو إليه القادم الجديد ويحرص على تحقيقه.
لكن.. ما هو معنى هذه الأولوية ؟
ما معنى أن يكون أحد البشر أولى من بقيتهم بالله تعالى في زمن ما؟
إن لكل من البشر تصوره الخاص عن الله تعالى وعمن هو الأقرب من الناس اليه, فاليهودي مثلا له تصوراته في هذا المجال, التي قد تصيب وقد تخطىء, وللمسيحي تصوراته كذلك, لكنهم جميعا يتفقون على مبادئ وأساسيات في شخصية الإنسان الأقرب إلى الله تعالى, والقدر المتيقن من تلك المبادئ: أنه هو الشخص القادر على الحديث في خصوصيات الأديان وتفاصيلها بأدق مما يتحدث بها أهلها ومعتنقيها, وهو الشخص الذي سيخبر أرباب الديانات بتاريخ ديانتهم وما جرى عليها وعلى كبرائها على مر التاريخ. بما لا يدع مجالا للشك أن هذا المتحدث متصل بالغيب, وهو أعرف بديانتهم وبنبيهم من أنفسهم. وهو الشخص القادر على الإتيان بالخوارق للعادات والمعاجز التي يكل عن الإتيان بها كافة أهل الاختصاص من البشر.
أن هذا الاحتجاج يعني فيما يعني عدة أمور:
أولا: أنه إذا كان لله حجة في الأرض فهو هذا الشخص لا غيره.
ثانيا: انه إذا كان للبشر اتصال بعالم الغيب فهو منحصر في هذا الشخص بشكله الأتم.
ثالثا: أنه إن كان شخص ما مخول في بيان أحكام الله تعالى وبيان أرادته, فهو هذا الشخص لا غير. رابعا: أنه أقرب الخلق وأرضاهم للخالق عز وجل وأحبهم إليه وأكرمهم عليه.بالشكل الذي سيمكنه من إظهار الكرامات والمعجزات التي يعجز كافة البشر عن مجاراتها.
وإذا أثبت الإمام عليه السلام أنه أقرب الخلق إلى الله تعالى, فان أول ما سيثبته بعد ذلك هو ارتباطه بخط الأنبياء وأنه ليس بدعاً من الأولياء, بل ما هو استمرار لخطهم وإحياء لأمرهم.
من كلام للسيد علاء الموسوي